تأثير الاستقطاب السياسي على الحركات النسائية الإسفيرية في ظل الحرب الدائرة في السودان



بقلم هبة خضر

 

مقدمة

لقد حدت الحرب الدائرة في السودان، والتي بدأت في 15 أبريل 2023، من قدرة النساء على الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، بما في ذلك خدمات الصحة الإنجابية، بسبب تدمير وإغلاق المستشفيات. بالإضافة إلى ذلك، تظل النساء معرضات لخطر متزايد من العنف الجنسي، سواء في منازلهن أو أثناء النزوح. حتى داخل منازلهن، أدت الحرب إلى تفاقم العنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل كبير، حيث تواجه النساء والفتيات مخاطر متزايدة من العنف المنزلي والاستغلال الجنسي والزواج القسري وزواج الطفلات  والاتجار بالبشر. كما أدى انتشار هذا العنف إلى إسكات أصوات النساء الأخريات وإعاقة مشاركتهن في الحياة العامة  هذا بالإضافة إلى الأصابة بصدمات جسدية ونفسية هائلة . علاوة على ذلك ، أثرت الحرب بشدة وبشكل سلبي على قدرة النساء على الوصول إلى فرص كسب الرزق، مما أدى إلى التهميش الاقتصادي ودفع العديد منهن إلى أوضاع متردية حيث يتعرضن لخطر متزايد من الاستغلال والإساءة .

على الرغم من هذه التحديات الهائلة، واصلت النساء السودانيات المقاومة والتنظيم، ووجدن طرقًا مبتكرة لمواصلة نشاطهن  للتصدي للواقع المرير الذي فرضته الحرب. لقد قدمت المنظمات النسائية، التي تعمل غالبًا في شبكات غير مرئية دعمًا للنساء المستضعفات، بما في ذلك المتضررات من الصراعات الجارية في أجزاء مختلفة من البلاد. وقد أظهرت هؤلاء النساء مرونة وشجاعة ملحوظة في مواجهة الشدائد، واستمررن في النضال من أجل حقوقهن وحرياتهن على الرغم من المخاطر الكبيرة التي تواجههن. ومع ذلك، فإن الاستقطاب السياسي المتزايد داخل البلاد يهدد هذا الدور الحيوي. لقد أثرت الأيديولوجيات الاستقطابية للدين والسياسات الحزبية والنظام الأبوي لفترة طويلة على تقدم وإنجازات الحركة النسوية في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، في المكسيك، أشعلت الاحتجاجات النسوية التي نُظمت في عامي 2019 و2020 للمطالبة بإنهاء إفلات الشرطة من العقاب موجة من العنف عبر الإنترنت. وكان هذا واضحًا بشكل خاص في تفعيل هاشتاجين متعارضين، والتي أصبحت منصات للتهديدات والتحرشات والمضايقات عبر الإنترنت التي تستهدف المحتجات. وقد حدت هذه البيئة الرقمية العدائية من فعالية مشاركتهن السياسية وجهود التنظيم, #TheyDoRepresentMe و #TheyDon’tRepresentMe،.

ستستكشف هذه المقالة تطور نشاط ومقاومة النساء السودانيات ، مع التركيز على دورهن الحاسم في ثورة 2019 والتحديات اللاحقة. علاوة على ذلك، ستحلل تأثير التحرش والتهديدات عبر الإنترنت على نشاط ومقاومة النساء الرقمية،  بسبب الاستقطاب السياسي الناشئ وسط هذه الحرب.

المنهجية

تبدأ المقالة بنظرة عامة على الخلفية التاريخية لنشاط  ومقاومة النساء السودانيات منذ الاستقلال، يليها تحليل لدورهن ومساهمتهن في عمليات التغيير السياسي والعقبات التي تواجههن. وأخيرًا، تتعمق في التحديات التي تواجهها النساء في التنقل في المجال الرقمي في خضم الحرب الحالية، وتسلط الضوء على تأثير الاستقطاب السياسي على نشاط النساء السودانيات ومقاومتهن الإسفيرية بشكل عام.

استخدمت هذه المقالة نهجًا بحثيًا نوعيًا للتعمق في القضية المعقدة المتمثلة في كيفية تأثير الاستقطاب السياسي على شمولية وفعالية نشاط النساء الرقمي في السودان خلال  الخرب الجارية. سمح هذا النهج بفهم أعمق للظاهرة قيد الدراسة في السياق الاجتماعي والثقافي. اعتمدت هذه الدراسة في جمع البيانات الأولية على مقابلات منظمة مع اثنتين من النساء الفاعلات داخل الحركة النسوية السودانية والتان قد قمنا بتشفيرهوياتهن في هذه المقالة حفاظا علي خصوصيتهن وتم الإعتماد  أيضا في جمع البيانات الثانوية على منشورات في مواقع التواصل الإجتماعي، والتي ستظل مشفرة  أيضا للحفاظ على الخصوصية.

التأثيرات المبكرة للاستقطاب السياسي على نشاط  و مقاومة المرأة السودانية:

تتمتع الحركة النسائية في السودان بتاريخ غني اتسم بالتقدم والنكسات في الوقت نفسه. ففي العقود الأولى (1947 – 1969)، ناضلت ناشطات حقوق المرأة، المتحالفات مع الحركات الوطنية، من أجل استقلال السودان وتحقيق قدر أكبر من المساواة والمشاركة في الحياة العامة. ولعب الإتحاد النسائي السوداني، الذي تأسس في عام 1952 من قبل خريجات ​​ومعلمات وبدعم من الحزب الشيوعي السوداني والنقابات العمالية والعمال، دورًا رائدًا في الحركة النسائية السودانية. تحدى الإتحاد النسائي السوداني،  بقايا القوانين الاستعمارية البريطانية القمعية التي حرمت الفتيات من التعليم الرسمي والممارسات الأبوية المبررة باسم التفسيرات الخاطئة للدين. وكان يهدف  إلى تحسين المشاركة الاجتماعية للمرأة والمساواة في الحقوق وتحسين الحياة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أسس فروعا على مستوى البلاد تمتد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب في جميع أنحاء السودان.

أثرت الديناميات الطبقية على الحركة النسوية السودانية منذ الأيام الأولى. غالبًا ما تصور القوميون من الطبقات العليا والمتوسطة تحرير المرأة من خلال نموذج  للتغيير الاجتماعي مستوحى من الغرب، مما أدى إلى التوتر مع القوميين من الطبقة المتوسطة الدنيا الذين حذروا من تدمير مؤسسة الأسرة، والتي هي حجر الزاوية في المجتمع الإسلامي.  لا يزال هذا  الخطاب  مستمر في التأثير على الحركة النسوية المعاصرة و إحداث توترات داخلها.

تطورت دعوة الإتحاد النسائي السوداني لحقوق المرأة على خلفية التوترات الدينية والسياسية المستمرة. بسبب مركزية الدين الإسلامي في المجتمع السوداني، حيث واجهت مطالب الإتحاد النسائي السوداني بالحق في التصويت، والحق في العمل، والأجر المتساوي، وحماية الأسرة مقاومة من العديد من الأحزاب السياسية، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين، والتي أصبحت فيما بعد الجبهة الإسلامية القومية. وعلى الرغم من استمرارتأثير الدين في تشكيل الخطاب العام بشكل كبير داخل الحركة النسوية وخارجها، على سبيل المثال، واجهت الحركة النسوية في ذلك الوقت معارضة قوية من الأحزاب السياسية الطائفية مثل حزب الأمة، والحزب الاتحادي، وجماعة الإخوان المسلمين (التي تم تحديدها لاحقًا باسم الجبهة ال إسلامية القومية) لأجندتها التي دعت إلى حقوق أساسية مثل الحق في التصويت، والحق في العمل، والمساواة في الأجر، وحماية الأسرة. وزعمت هذه المجموعات السياسية أن أنشطة الحركة النسوية في ذلك الوقت تتناقض مع التعاليم الإسلامية والقيم المجتمعية.

وعلى الرغم من رفض الأحزاب السياسية، شاركت نساء  الإتحاد النسائي السوداني في ثورة أكتوبر عام 1964 ضد الحكم العسكري. وانضمت النساء إلى الاحتجاجات في الشوارع، وشاركن في الإضرابات المدنية، وكن جزءًا من الجبهة الوطنية. وشهدت هذه الفترة الثورية زيادة في أنشطة الاتحاد وبلغت ذروتها بحصول النساء على حق التصويت في عام 1965 وحقوق المساواة في الأجر في عام 1968. كما شهدت الستينيات أيضًا صعود المنظمات النسائية، بما في ذلك أول مجموعة نسائية إسلامية، الأخوات المسلمات، بالإضافة الي رابطة نساء الجنوب.

وقد تتبعت أحد المشاركات في المقابلات جذور الخلاف داخل الحركة النسائية السودانية إلى الأيام الأولى للاتحاد النسائي السوداني. والتي  نشأت من الصراعات الإيديولوجية بين الفصائل الليبرالية و الفصائل المحافظة داخل الحركة النسوية. وعلاوة على ذلك، كان تحالف الاتحاد النسائي السوداني المبكر مع الحزب الشيوعي مؤثراً بشكل كبير على مسار الإتحاد وساهم في هذه  تعزيز الانقسامات آنفة الذكر.

لقد دعم نظام نميري الذي استولى على السلطة في عام 1969 مطالب الحركة بسياسات تضمن حقوق المرأة في المعاشات التقاعدية وإجازة الأمومة والحماية من العنف الزوجي. ومع ذلك، فقد حظر نشاط الاتحاد النسائي السوداني وساهم في تقسيمه من خلال إنشاء مبادرة بقيادة الدولة،  والتي  عرفت باتحاد نساء السودان. وسيطر نظامه على هذا الجسم الناشئ بشكل أساسي ووجه نشاط النساء فيه بأجندة الحكومة التي أعطت الأولوية فقط لمخاوف نساء الطبقة المتوسطة، مثل ظروف العمل في القطاع الرسمي. وعلى الرغم من أهمية هذه الأولويات، إلا أنه أهمل احتياجات ومخاوف النساء الريفيات وغيرهن من مجموعات النساء المهمشة.

ومع قيام الحكومة بتأسيس اتحاد نساء السودان ، فقد أُدخِلت أجندات متنافسة داخل الحركة النسائية السودانية. وقد أدى هذا إلى تفاقم التوترات القائمة مما يسلط الضوء على أثر الاستقطاب الخارجي على مسار الحركة  النسائية وجبهتها العريضة. ومع ذلك، قدمت المشاركات في المقابلات وجهات نظر مختلفة حول جذور الاستقطاب داخل الحركة النسائية السودانية. ففي حين أكدت إحداهن على السياق التاريخي الأوسع، مشيرة إلى ثورة 1924 وتوسع التعليم وأدوار المرأة في المجتمع، ركزت الأخرى على الديناميات الداخلية بين اليساريين والإسلاميين في الاتحاد النسائي السوداني في بداياته. وهذا يوضح أن الصراعات الإيديولوجية وصراعات القوة داخل الحركة نفسها لعبت دورًا مهمًا في تشكيل مسارها.

ومع ذلك، أدي تبني الدولة لبرامج التكيف الهيكلي في نهاية السبعينات ، وهي مجموعة من السياسات الاقتصادية التي قدمتها المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عواقب عقيمة على النساء. فمن خلال تحويل مسؤولية الرعاية الاجتماعية من الدولة إلى الأسر، غالبًا ما زادت برامج التكيف الهيكلي من العبء على النساء، اللائي كن مسؤولات بشكل غير متناسب عن أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر وإدارة موارد الأسرة بدعم أقل. وقد أقرت كلتا المشاركتين في المقابلات بالتأثير الكبير للسياسة على نشاط حقوق النساء، مدركتين أن الانتماءات السياسية يمكن أن تتقاطع مع الأجندات النسوية، مما يؤدي أحيانًا إلى صراعات بين المبادئ النسوية والأهداف السياسية. وفي حين إعترفت كلتاهما بإمكانية التأثير السياسي، إلا أنهما إختلفتا  في تقييمهما لمدى هذا التأثير. وتشير إحدي المشاركات في المقابلات  إلى أن الاستقطاب السياسي منتشر على نطاق واسع داخل الحركة النسائية، وتعزو ذلك إلى الطبيعة الأبوية للمؤسسات السياسية. ورغم إقرارها بتأثير الانتماءات السياسية، زعمت المشاركة الأخرى أن الناشطات النسويات لسن جميعهن مستقطبات بطبيعتهن.  لكن تأثير الأحزاب السياسية على بعض الجماعات النسوية، يؤدي إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الأجندات النسوية والسياسية.

القمع والمقاومة: المرأة السودانية في ظل نظام الجبهة الإسلامية القومية (1989 – 2019)

بدأت الجبهة الإسلامية القومية في الظهور خلال حكم نميري لممارسة نفوذها على المجتمع السوداني من خلال الترويج لأيديولوجيتها المحافظة وإنشاء شبكة دعم خاصة بها. وكما ذكرنا، فقد شكلت المناقشات حول الدين بالفعل انقسامات داخل الحركة النسوية، ولكن مع صعود هذه الأيديولوجية الإسلامية، واجهت الحركة  النسوية ضغوطًا متزايدة من الدولة والقوى الإسلامية الصاعدة، مما أدى إلى انقسامات أيديولوجية داخلية. وقد شكلت هذه الفترة نقطة تحول مهمة في تاريخ الحركة النسوية السودانية، مما مهد الطريق للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي أعقبت ذلك. أثرت الجبهة الإسلامية القومية على نظام نميري لفرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983،  و كان لهذه القوانين  تأثير سلبي على النساء من خلفيات دينية مختلفة. كما قيدت هذه القوانين الحقوق القانونية للمرأة، مثل إلغاء شهادتها في المحكمة، وزادت من حرمان النساء من خلال إدخال ضريبة الدخل مع الزكاة، إلى جانب قانون الضرائب الاجتماعية.

كما عملت الجبهة الإسلامية  القومية ضد كل المبادئ الديمقراطية للوصول إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري في عام 1989، وقمعت المعارضة السياسية وفصلت الموظفين\ات الحكوميين\ات، وخاصة أولئك الذين كانوا تابعين\ات للحزب الشيوعي. وقد أجبر هذا القمع السياسي العديد من النساء، بما في ذلك أولئك اللاتي كن يعملن سابقًا مع المنظمات التي تقودها الدولة، على البحث عن سبل بديلة للنشاط السياسي. ونتيجة لذلك، كانت هناك زيادة كبيرة في مشاركة النساء في المنظمات غير الحكومية أثناء سعيهن إلى الانخراط في التغيير السياسي والاجتماعي خارج حدود جهاز الدولة القمعي. واجهت المنظمات النسائية التي عارضت سياسات الجبهة  الإسلامية القومية قمعاً وتهميشًا كبيرين. قمعت الحكومة نشاط أولئك اللائي تحدثن ضد النظام وواجهن اثر ذلك عواقب وخيمة، بما في ذلك السجن والاضطهاد. واضطرت الجماعات النسائية إلى العمل في الخفاء، مما جعل من الصعب عليها النضال من أجل حقوق المرأة بشكل فعال. حيث أعاقت بيئة الخوف والترهيب هذه بشكل كبير نمو وتطور الحركة النسوية في السودان.

التقدم والانتكاسات: المرأة السودانية في عصر ما بعد الثورة

مع تطور الإنترنت و الثورة الرقمية، أتاحت منصات التواصل الاجتماعي للحركة النسوية  السودانية القدرة على حشد وتنظيم الاحتجاجات. خلال الثورة السودانية التي بدأت في ديسمبر 2018 والتي أطاحت بنظام الجبهة الإسلامية القومية، شاركت النساء بنشاط عبر الإنترنت للتنظيم والدعوة إلى مطالبهن.حيث  قدمت المنصات عبر الإنترنت للنساء فهمًا متعدد الأوجه لـ “الحرية”، بما في ذلك التحرر من الفقر والخوف والقوانين القمعية. ومع ذلك، أظهرت الاحتجاجات والمناظرات عبر الإنترنت أثناء الثورة الدوافع المتنوعة التي جعلت النساء في مقدمة المواكب الإحتجاجية، بما في ذلك الرغبة في الأمان والأمن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، والتي نشأت في الأصل من النضالات اليومية للنساء، وخاصة النساء  من المجتمعات المهمشة تاريخيا. أدى تدفق النساء من المناطق الريفية اللاتي تعرضن لتجارب النزوح والصدمة إلى توسيع نطاق الحركة لمعالجة قضايا مثل السلام والأمن والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي وتقاطع النوع الاجتماعي مع أشكال أخرى من التمييز.

بدأت الجماعات النسوية في الحشد والتنظم عبر الإنترنت في عام 2019  ومن ثم نظمت سلسلة من المظاهرات في جميع أنحاء السودان، مع احتجاجات مركزية جرت أمام وزارة العدل في الخرطوم واحتجاجات مماثلة في مدن أخرى. هدفت هذه الاحتجاجات إلى إدانة المواد التي تنتهك حقوق النساء، مثل تلك التي تسمح بالزواج المبكر للفتيات في سن 10 سنوات، والمضمنة في قوانين الأحوال الشخصية السودانية، وكذلك المطالبة بإلغاء قانون النظام العام. لبت جماعات حقوق المرأة في مدن أخرى في جميع أنحاء السودان الدعوة إلى العمل باحتجاجات متزامنة في مناطقهن. بمجرد مشاركة صور الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، أثارت رد الفعل العنيف الفوري اتهامات بأن المحتجات يهدفون إلى تفكيك قانون الشريعة الإسلامية. حتى أن البعض لجأ إلى الهجمات الشخصية، فتجاهلوا تمامًا غرض الاحتجاجات وانتقدوا بدلاً من ذلك الملابس  والمظهر الجسدي للمحتجات. وعلى الرغم من مواجهة ردود الفعل العنيفة والهجمات، نجحت الحركة النسوية  في تحقيق تعديلات على قانون الأحوال الشخصية وإلغاء قانون النظام العام.

عززت الثورة المزيد من الإدماج  والتضمين داخل الحركة النسوية، وجمعت المزيد من النساء من خلفيات متنوعة، ريفية وحضرية. ومع ذلك، استمرت التحديات المتعلقة بالانقسامات الداخلية، والتي تنبع من عوامل مثل الطبقة والعرق والانتماءات السياسية المختلفة. وعلى الرغم من التفاؤل الأولي المحيط بإمكانية المجال الرقمي في تمكين النشاط النسوي الحقوقي و السياسي ،إلا أن المنصات الرقمية عكست في نهاية المطاف الهياكل الأبوية الموجودة على أرض الواقع, مما حد من التأثير التحويلي للحركة النسوية. ذات القوى التي همشت النساء في جوانب أخرى من الحياة حدت من وصولهن إلى هذا الفضاء الرقمي ومشاركتهن فيه، مما أدى إلى استبعاد العديد منهن من فوائده المحتملة، مثل الوصول إلى جمهور أوسع وتعبئة الاحتجاجات بشكل فعال.

نشاط الحركة النسائية والاستقطاب السياسي على الإنترنت في خضم الحرب الدائرة في السودان:

هدد اندلاع الحرب في عام 2023 مرة أخرى حقوق المرأة وقوض تقدمها. فقد امتدت الحرب إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة المادية، حيث استخدم كل من الفصيلين المتحاربين منصات الإنترنت للتلاعب بالرأي العام وتعزيز سردياتهما السياسية. وفي حين حظيت القوات المسلحة السودانية بدعم الإسلاميين و بعض الحركات المسلحة و حلفاء سياسيين من مجموعات سياسية أخرى. فقد واجهت الإجراءات التي اتخذتها بعض الأحزاب السياسية والأجسام النقابيّة و بعض الحركات المسلحة و جزء من منظمات المجتمع المدني الممثلة في هيئة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)  مثل توقيع إعلان أديس أبابا الذي تم توقيعة بين تقدم و قوات الدعم السريع  في الثاني من يناير 2024. واجهت تلك الإجراءات انتقادات وهجمات من داعمي القوات المسلحة السودانية و أنصارها من الإسلاميين وغيرهم، مما أعتبره العديد من المواطنين دليلا على الاتهامات التي طالت تقدم أنها الغطاء السياسي لقوات الدعم السريع، المعروفة بارتكابها للجرائم و الفظاعات ضد المدنيين. هذا بالإضافة الي الحملات واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي تتهم  بعض المواطنين بدعم قوات الدعم السريع بناءا علي خلفيتهم الأثنية والسياسية. ونتيجة لذلك، أصبحت المساحات الرقمية مستقطبة بين مؤيدي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، حيث تم استهداف ناشطات حقوق المرأة والصحفيات من قبل الفصيلين المتحاربين. وقد أدى هذا الصراع إلى هجمات متبادلة تقوض حرية التعبير. في حين يظل الممثلون الذكور المصدر السائد للعداء تجاه الناشطات السياسيات والمدافعات عن حقوق المرأة، فقد ظهر نمط مقلق من العداء الجانبي، حيث تشارك النساء من تحالفات سياسية متنوعة في تفاعلات عدائية عبر الإنترنت.

بناءً على بيانات من مشروع الرصد للعنف القائم على النوع الاجتماعي عبر الانترنت، يمثل الصراع داخل الحركة التسوية تحديًا كبيرًا لتعزيز حقوق المرأة داخل المشهد السياسي السوداني. على سبيل المثال، في سبتمبر 2024، واجهت صحفية سودانية بارزة وناشطة سياسية تنمرًا عبر الإنترنت من قبل نظيراتها من الإناث لانتقادها استجابة الجمهورالاحتفالية لاسترداد الجيش منطقة كانت تسيطرعليها قوات الدعم السريع في إحدى مناطق السودان. جادلت الصحفية بأن الاحتفال بالنصر بين فصيلين عسكريين متحاربين، وكلاهما جزء من النظام القمعي السابق، كان في غير محله، حيث سلطت الضوء على التكلفة البشرية للصراع، بما في ذلك الأرواح المفقودة والبنية التحتية المدمرة بجانب الدمار الاقتصادي الذي تبع الحرب. وقالت إن الاحتفال يجب أن يأتي فقط بعد انتهاء هذه الحرب، مع تحقيق العدالة والسلام.الأمر الذي إعتبره البعض إستفزاز لمشاعر الجمهور الذي عانى من إنتهاكات قوات الدعم السريع في تلك المنطقة. في حالة  أخرى، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أثار منشور لصحفية بارزة أخرى على فيسبوك حول استرداد الجيش لمنطقة أخرى كانت  تسيطر عليها قوات الدعم السريع قرب  منطقة النيل الأزرق مضايقات عبر الإنترنت. وأدت صياغتها، التي يُنظر إليها على أنها تنزع الشرعية عن جهود الجيش، إلى اتهامها بدعم الطرف الآخر المتحارب (الدعم السريع) من قبل ناشطات أخريات. أظهرت هاتان الحالتان السرديات المعقدة المحيطة بالحرب، وقوة اللغة، والهجوم المباشر الذي يواجهنه الصحفيات في خضم هذا الوسط الإسفيري السام.

الانقسامات الداخلية  للحراك النسوي ستضعف الصوت الجماعي للنساء المدافعات عن الحقوق و العدالة او محاسبة الجناة  ودعم الناجيات/ الضحايا  من العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي. على سبيل المثال، غضت مدافعة أخرى عن حقوق النساء ، و هي معروفة بتوثيقها لجرائم العنف الجنسي ، غضت الطرف عن  قصد عن جرائم مماثلة ارتكبها جنود القوات المسلحة السودانية ضد النساء، بينما كانت تشارك توثيقها لجرائم العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع. ومن المؤكد أن مثل هذه الديناميات يمكن أن تعقد الجهود الرامية إلى إعطاء الأولوية لاحتياجات جميع الناجيات. ويمكن أن يكون الاستقطاب السياسي ضارًا بحقوق النساء  في مناطق الصراع. وقد خلقت الانقسامات التي أعاقت العمل الجماعي وسمحت للنخب السياسية بالتلاعب بالإصلاحات الخاصة بمفهوم العدالة و الإفلات من العقاب لتحقيق مكاسبها الخاصة. وزعمت إحدى المشاركات في المقابلات  أن الاستقطاب السياسي “عطل” الأجندة النسوية، مما جعلها سطحية وتركز أكثر على الصراعات السياسية. كما أشارت إلى “احتكار العمل النسوي” من قبل مجموعات معينة وقمع الحركات المستقلة كعواقب رئيسية للاستقطاب.

وأشارت المشاركتان في المقابلات إلى أن الاستقطاب السياسي يؤثر بشكل كبير على الخطاب عبر الإنترنت بين ناشطات حقوق المرأة في السودان، مما يخلق بيئة عدائية ومخيفة. وأقرت المشاركتان في المقالات  بتبعات المضايقات عبر الإنترنت والضرر الذي يلحق بالسمعة، حيث أكدت إحداهما على التأثير الأوسع على الحركة النسائية، مسلطة الضوء على “انحدار وانكماش” العمل الجماعي و”شلل” العمل الجماعي بسبب المخاوف من العواقب و التهديدات عبر الإنترنت. وتركز المشاركة  الأخرى بشكل أضيق على دور خطاب الكراهية، مسلطة الضوء بشكل خاص على تضخيمه من قبل الأطراف المتحاربة ومنافذها الإعلامية في استهداف الناشطات داخل السودان.

الخلاصة

إن الاستقطاب له تأثير متعدد الأوجه، يتراوح من التحولات الدقيقة في الأجندة النسوية نحو المصلحة السياسية إلى تعطيل الأهداف الأساسية للحركة النسوية  وقمع الأصوات المستقلة. وعلاوة على ذلك، أثر الاستقطاب السياسي بشكل كبير على الفضاء الإلكتروني، مما أدى إلى خلق بيئة عدائية ومخيفة لناشطات حقوق المرأة وإعاقة قدرتهن على الانخراط في العمل الجماعي بشكل فعال. إن ظاهرة “العداء والعنف داخل الحركة” يقوض القوة الجماعية للحركات النسائية ويعوق التقدم نحو أهدافها المشتركة. ومن الضروري إجراء المزيد من البحوث لاستكشاف الأسباب الكامنة وراء هذا الخلاف الداخلي وعواقبه وتطوير استراتيجيات لتعزيز التضامن والتعاون بين الناشطات في السودان.

 

التوصية

إن معالجة الاستقطاب السياسي داخل الحركة النسائية السودانية يتطلب نهجًا متعدد الجوانب. أولاً، يعد تعزيز الحوار المفتوح والصادق بين ناشطات حقوق المرأة من خلفيات متنوعة أمرًا بالغ الأهمية. ويشمل ذلك خلق مساحات آمنة للتأمل الذاتي النقدي، والاعتراف بالعوامل التاريخية والمعاصرة التي تساهم في هذا الاستقطاب ومعالجتها، وتعزيز الفهم والاحترام لوجهات النظر المتنوعة. وأخيرًا، يعد تعزيز عمليات صنع القرار الشاملة والتشاركية داخل الحركة النسوية أمرًا بالغ الأهمية. ويشمل ذلك ضمان سماع أصوات النساء المهمشات، بما في ذلك النساء من المناطق الريفية والمناطق المتضررة من النزاع وقطاع الأعمال غير الرسمي والخلفيات العرقية والدينية المتنوعة. ومن خلال معالجة هذه التحديات، يمكن للحركة النسوية السودانية التغلب على الانقسامات الداخلية، وتعزيز عملها الجماعي، ومواصلة عملها الحيوي نحو تحقيق المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية.